الغيبة


قال تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) الحجرات:12.


وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدد مفهومها لأصحابه على
طريقته في التعليم بالسؤال والجواب، فقال لهم: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما
أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد
بهته".


وما يكرهه الإنسان يتناول خلقه وخلقه ونسبه وكل ما يخصه. وعن عائشة
قالت: قلت للنبي حسبك من صفية (زوج النبي) كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".


إن الغيبة هي شهوة الهدم للآخرين، هي شهوة النهش في أعراض الناس
وكراماتهم وحرماتهم وهم غائبون. إنها دليل على الخسة والجبن، لأنها طعن من
الخلف، وهي مظهر من مظاهر السلبية، فإن الاغتياب جهد من لا جهد له. وهي
معول من معاول الهدم، لأن هواة الغيبة، قلما يسلم من ألسنتهم أحد بغير طعن
ولا تجريح.


فلا عجب إذا صورها القرآن في صورة منفرة تتقزز منها النفوس، وتنبو عنها
الأذواق: (ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
فكرهتموه) الحجرات:12. والإنسان يأنف أن يأكل لحم أي إنسان، فكيف إذا كان
لحم أخيه؟ وكيف إذا كان ميتا؟‍!


وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا التصوير القرآني في الأذهان،
ويثبته في القلوب كلما لاحت فرصة لهذا التأكيد والتثبيت.


قال ابن مسعود: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل (أي غاب عن
المجلس) فوقع فيه رجل من بعده. فقال النبي لهذا الرجل: "تخلل" فقال: ومم
أتخلل؟ ما أكلت لحما. قال: "إنك أكلت لحم أخيك".


وعن جابر قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون
المؤمنين".



حدود الرخصة في الغيبة


كل هذه النصوص تدلنا على قداسة الحرمة الشخصية للفرد في الإسلام.


ولكن هناك صور استثناها علماء الإسلام من الغيبة المحرمة، وهي استثناء
يجب الاقتصار فيه على قدر الضرورة.


ومن ذلك المظلوم الذي يشكو ظالمه، ويتظلم منه فيذكره بما يسوؤه مما هو
فيه حقا، فقد رخص له في التظلم والشكوى قال الله تعالى: (لا يحب الله الجهر
بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما) سورة النساء:148.


وقد يسأل سائل عن شخص معين، ليشاركه في تجارة أو يزوجه ابنته أو يوليه
من قبله عملا ما، وهنا تعارض واجب النصيحة في الدين وواجب صيانة عرض
الغائب، ولكن الواجب الأول أهم وأقدس فقدم على غيره. وقد أخبرت فاطمة بنت
قيس النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنين تقدما لخطبتها فقال لها عن أحدهما:
"إنه صعلوك لا مال له" وقال عن الآخر: "إنه لا يضع عصاه عن عاتقه" -يعني
أنه كثير الضرب للنساء-.


ومن ذلك الاستفتاء.


والاستعانة على تغيير المنكر.


ومن ذلك أن يكون للشخص اسم أو لقب أو وصف يكرهه ولكنه لم يشتهر إلا به
كالأعرج والأعمش وابن فلانة.


ومن ذلك تجريح الشهود ورواة الأحاديث والأخبار.


والضابط العام في إباحة هذه الصور أمران : 1- الحاجة 2- والنية.


فما لم تكن هناك حاجة ماسة إلى ذكر غائب بما يكره، فليس له أن يقتحم
هذا الحمى المحرم، وإذا كانت الحاجة تزول بالتلميح فلا ينبغي أن يلجأ إلى
التصريح، أو التعميم فلا يذهب إلى التخصيص. فالمستفتي مثلا إذا أمكن أن
يقول: ما قولك في رجل يصنع كذا وكذا. فلا ينبغي أن يقول: ما قولك في فلان
ابن فلان. وكل هذا بشرط ألا يذكر شيئا غير ما فيه وإلا كان بهتانا حراما.


والنية وراء هذا كله فيصل حاسم، والإنسان أدرى بحقيقة بواعثه من غيره،
النية هي التي تفصل بين التظلم والتشفي، بين الاستفتاء والتشنيع، بين
الغيبة والنقد، بين النصيحة والتشهير. والمؤمن -كما قيل- أشد حسابا لنفسه
من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح.


ومن المقرر في الإسلام أن السامع شريك المغتاب، وأن عليه أن ينصر أخاه
في غيبته ويرد عنه. وفي الحديث " من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على
الله أن يعتقه من النار ". " من رد عن عرض أخيه في الدنيا رد الله عن وجهه
النار يوم القيامة ".


فمن لم تكن له هذه المهمة، ولم يستطع رد هذه الألسنة المفترسة عن عرض
أخيه، فأقل ما يجب عليه أن يعتزل هذا المجلس ويعرض عن القوم حتى يخوضوا في
حديث غيره وإلا فما أجدره بقول الله (إنكم إذا مثلهم) سورة النساء:140.




النميمة


وإذا ذكرت الغيبة في الإسلام ذكر بجوارها خصلة تقترن بها حرمها الإسلام
كذلك أشد الحرمة، تلك هي النميمة. وهي نقل ما يسمعه الإنسان عن شخص إلى
ذلك الشخص على وجه يوقع بين الناس، ويكدر صفو العلائق بينهم أو يزيدها
كدرا.


وقد نزل القرآن بذم هذه الرذيلة منذ أوائل العهد المكي إذ قال: (ولا
تطع كل حلاف مهين. هماز -طعان في الناس- مشاء بنميم) سورة القلم:10-11.


وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام
وقيل النمام: هو الذي يكون مع جماعة يتحدثون حديثا فينم عليهم. والقتات: هو
الذي يتسمع عليهم وهم لا يعلمون ثم ينم.


وقال: "شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون
للبرآء العيب".


إن الإسلام، في سبيل تصفية الخصومة وإصلاح ذات البين يبيح للمصلح أن
يخفي ما يعلم من كلام يسيء قاله أحدهما عن الآخر، ويزيد من عنده كلاما طيبا
لم يسمعه من أحدهما في شأن الآخر وفي الحديث:"ليس بكذاب من أصلح بين اثنين
فقال خيرا أو أنمى خيرا".


ويغضب الإسلام أشد الغضب على أولئك الذين يسمعون كلمة السوء فيبادرون
بنقلها تزلفا أو كيدا، أو حبا في الهدم والإفساد.


ومثل هؤلاء لا يقفون عندما سمعوا، إن شهوة الهدم عندهم تدفعهم إلى أن
يزيدوا على ما سمعوا، ويختلقوا إن لم يسمعوا.


شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا




دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن آخر شيئا يكرهه. فقال عمر:
إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: (إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا) وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: (هماز مشاء
بنميم) وإن شئت عفونا عنك. قال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه
أبداً

والله أعلم.